كلمة رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو خلال مراسم إحياء ذكرى وفاة رئيس الوزراء الأول دافيد بن غوريون قرب ضريحه في قرية سديه بوكير بالنقب

فخامة رئيس الدولة رؤوفين ريفلين، سوف أمتثل بتعليماتك وأكتفي بالقول "أيها الأفاضل"، لكن دَعْني أرحب على أي حال بعائلة بن غوريون العزيزة وغيرها من الحضور، عدا عن أعضاء هيئة الأركان العامة لجيش الدفاع وكبار ضباط شرطة إسرائيل، وهم الشبان الذين سنحت لي قبل ساعة فرصة لقائهم والذين يدرسون في بعض المعاهد التمهيدية للخدمة العسكرية ومنها معهد "النقب" التمهيدي [الذي يتخذ من سديه بوكير مقراً له].

إذ جلسنا هنا على الصخور والحجارة المطلّة على الوادي رائع الجمال [وادي صين ومنطقة عين عوفدات التي يشرف عليها ضريح بن غوريون] حيث جرى الحوار بيننا. وقد سألوني الأسئلة بينما اكتفيتُ بطرح سؤال واحد عليهم: "كم منكم يرغب في أن ينخرط بالحياة العامة؟ كم منكم يرغب في أن يصبح رئيساً للوزراء؟"، وعندها رفع الكثير منهم أيديهم [إشارة الموافقة على توفر هذه الرغبة لديهم]، ما جعلني أقول لهم: "أمعِنوا النظر جيداً في الموضوع" [تحذير ضمني]، لكنني أعتقد رغم ذلك بأنه لا توجد أي رسالة أعظم من رسالة الخدمة العامة وإنْ كانت لها في العصر الحالي مسارات منافسة. وأكدتُ لهم على أمريْن: "لا تفقدوا أبداً الحماسة الصهيونية"، ثم أيضاً: "إكتسِبوا العلم"، ذلك لأن الحماس والتحصيل العلمي، كما سبق وذكرتَهما أيها السيد رئيس الدولة، هما الكفيلان بإنجاز العمل.

وقد تأثرتُ كثيراً بهذا اللقاء المباشر، حيث أعتقد بأن دافيد بن غوريون كان سينفعل كثيراً، بعد مضي عقود على رحيله، لو كان يرى هؤلاء الشبان الذين أظهروا، بالمناسبة، إلمامهم بعدد غير قليل من المسائل الشخصية الخاصة ببن غوريون التي تناولها الحوار بيننا. وأعتقد بأن هذا الأمر يثلج الصدور ويزرع الكثير من الآمال.

إن هذه المراسم لإحياء ذكرى دافيد بن غوريون هي الأولى المقامة بغياب شمعون بيرس رحمه الله [رئيس الدولة السابق] الذي كان من أبرز تلامذة بن غوريون، حيث يجب القول إنني- مثلكم- أفتقده من حيث ما كان يمثله وبالنظر إلى الاستمرارية [التي كان الراحل بيرس يجسدها بشخصه]. غير أننا قررنا إطلاق اسم مدينة الأبحاث النووية الواقعة على مسافة عدة كيلومترات من هذا المكان على اسم شمعون بيرس، علماً بأن هذه المدينة كانت قد أنشِئت، إلى حد كبير، بفضل مبادرة دافيد بن غوريون ومن خلال العمل الحثيث المتخطّي للعوائق البيروقراطية الذي قام به شمعون بيرس. ومن الواضح أن هذا العمل قد جرى على أساس التكامل [بين الراحليْن بن غوريون وبيرس] مما تمثل أيضاً في مجالات أخرى.

إذ كان بن غوريون صاحب حق الأولوية في وضع الأسس. إنه أدرك أنه لا يكفي الإعلان عن الدولة أو إقامتها بل إن المشكلة تنحصر في كيفية الإبقاء على الدولة وضمان وجودها على المدى البعيد. إنه أدرك أن الضرورة تقتضي، إلى جانب الطاقات الثقافية والروحانية التي كانت أساساً لوجودنا على مرّ العصور وكذلك لنهضتنا الوطنية والتي يجب حفظها وتنميتها باستمرار، ثلاثة أسس راسخة لضمان استمرارية طريقنا ووجودنا وهي كالآتي: القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والقوة السياسية. ونقوم ببناء وتنمية هذه الأسس الثلاثة التي وضعها بن غوريون، حيث نسير تماماً على أعقابه في بعضها فيما نعتمد التغييرات اللازمة بفعل مرور الزمن بالنسبة لبعضها الآخر.

وقد أدرك بن غوريون شيئاً أساسياً أكرر قوله بين حين وآخر، مهما بدا هذا الكلام مبتذلاً وبديهياً، علماً بأن جزءاً من شعبنا قد نسي هذا الكلام مع مرور السنين (أو هكذا كان الأمر بادياً للعيان) لكن هذا الإدراك عاد الآن ليشكل قاسماً مشتركاً بين فئات الشعب بأسرها، حيث تتجلى هذه الحقيقة البسيطة كالتالي: إن في منطقتنا (لا بل أؤكد لكم أن الأمر لا يقتصر على منطقتنا وحدها) لن يبقى الضعيف فيما يبقى القوي. إن القوي لن يكون عرضة لهجمات أو، على الأقل، تتوقف الهجمات عليه ويتم عقد التحالفات وصنع السلام معه. لذلك دأب بن غوريون، بادئ ذي بدء، على بناء المقوِّم الأول لقوتنا الوطنية ألا وهو القوة العسكرية أو جيش الدفاع الإسرائيلي. وقد رسم بن غوريون، فيما يخص هذه المسألة، عدة قواعد أساسية ما زلنا نهتدي بها حتى اليوم من خلال العقيدة التي عبر عنها وشدد عليها.

ويجب على قواتنا العسكرية [بموجب العقيدة المشار إليها] أن تقوى على صدّ أي عدو أو مجموعة أعداء. كما يجب أن تستطيع نقل الحرب إلى أراضي العدو كما تم في كاديش [حملة كاديش أو سيناء على مصر عام 1956] ثم في حروب أخرى، بالإضافة إلى وجوب توفر القدرة لدى هذه القوات على التهديد بإبادة كل من يتوعد بإبادتنا. وبالتالي نواصل اليوم أيضاً تنمية قوتنا العسكرية والاستخبارية أكثر من أي وقت مضى مما جعلها، وفق بعض المفاهيم، مختلفة تماماً عما كانت عليه أيام بن غوريون. غير أنني أؤكد أن هناك خطاً مباشراً متواصلاً من التعاظم [العسكري الإسرائيلي] الذي كان بن غوريون قد بدأ برسمه ليمتدّ حتى أيامنا.

وقد أصبح جيش الدفاع أحد الجيوش الرائدة والقوية في العالم. كما أن أجهزتنا الاستخبارية والوقائية هي من أفضل ما يوجد في العالم، وعليه فإن كل من يهدد وجودنا إنما يعرض نفسه للخطر الكبير للغاية. ولهذا السبب نتسلح بمقاتلات F-35 [أحدث المقاتلات الأميركية] وبالغواصات وبقدرات السايبر [الفضاء الإلكتروني] وأيضاً بالمنظومات الدفاعية من قبيل "القبة الحديدية" و"العصا السحرية" [منظومات صاروخية لاعتراض الصواريخ المعادية] وغيرهما كثيراً. غني عن القول إن كل هذه المنظومات تكلف أموالاً طائلة مما يقتضي الاقتصاد القوي، علماً بأن اقتصاداً كهذا مطلوب من أجل إعمار الدولة لكنه مطلوب، في المقام الأول، لمجرد تلبية الاحتياجات الأمنية التي لا وجود بغيابها.

وقد وضع بن غوريون الأسس الأولى لتطوير الاقتصاد على شكل الطرقات والمصانع والهجرة اليهودية إلى البلاد. وكان استيعاب المهاجرين الجدد هدفاً صهيونياً لكنه أسهم أيضاً في زيادة الناتج الإسرائيلي ومضاعفته بسرعة حيث كان الأمر من مقتضيات الفترة الأولى من عمر الدولة. وكان بن غوريون يرى أن هذه المشاريع تتطلب اعتماد مقاربة الاقتصاد المخطط مركزياً، لكن السنين التي مضت منذ ذلك الحين تطلبت، فيما يتعلق بهذا الموضوع بالذات، إحداث نوعاً من التغيير، ما يعني أنه كان لزاماً التحرر من التخطيط المركزي المفرط للاقتصاد. إذ إن النمو الاقتصادي يأتي، في نهاية الأمر، من القطاع الخاص. ويستحيل إدامة أي اقتصاد على نمط ألمانيا الشرقية كما أثبتت ذلك تجربة ألمانيا الغربية؛ ويستحيل الإبقاء على اقتصاد قريب من النموذج الكوري الشمالي بل يجب جعله أقرب من النموذج الكوري الجنوبي، بمعنى انفتاح الاقتصاد على المنافسة وريادة الأعمال.

صحيح أن هناك، في بعض الأحيان، عيوباً يتم إصلاحها [في النظام الاقتصادي الحرّ] لكن يستحيل دفع الاقتصاد بغياب هذه المقومات. هذا هو الدرس الرئيسي المستفاد [من التجارب التأريخية] وهذا ما جرى في دولة إسرائيل. ترى، هل تأتي الشركات الناشئة بمبادرة من الحكومة؟ هل هي مصانع مخطط لها مركزياً؟ لا، إنما هي تتجسد برواد الأعمال، رجالاً ونساء، الذين يجرّبون حظوظهم وقد يُخفقون، لكنهم يحققون أيضاً النجاحات. ولا تنتج مشاريعهم عن التعليمات الحكومية أو عن مجالس إدارة حكومية بل إنها تمثل ريادة للأعمال بكل معنى الكلمة. وبالتالي طبقنا الإصلاحات الكبرى لجعل إسرائيل اقتصاداً حراً، أم بالأحرى أكثر حرية حيث لا يوجد في الواقع اقتصاد حرّ بشكل مطلق. وتمثلت هذه الإصلاحات بتحرير العملة ثم فتح أبواب الاقتصاد على المنافسة وعشرات الخطوات الأخرى التي استهدفت الاستفادة من القواعد الأساسية التي أرساها بن غوريون والحكومات الإسرائيلية عند انطلاق الدولة في طريقها، ومن ثم تعزيزها بهذا البُعد القائم على المنافسة.

وكان بن غوريون، على سبيل المثال، يقدّر جداً العلوم والتقنيات، لكن يبدو لي أنه كان ينظر إليها، إلى حد كبير، على أنها أداة قائمة بذاتها بيد الدولة فيما نعتبرها نحن محركاً اقتصادياً هائلاً لتطوير الأعمال والقطاع الخاص. وكان الاتحاد السوفياتي السابق زاخراً بالعلماء وخبراء الرياضيات والفيزياء والكيمياء على أعلى مستوى في العالم، لكن كل عملهم لم يكن كافياً. وكان هؤلاء يخدمون الدولة وكانوا أداة بيدها، لكن عندما يُفسَح المجال أمام إطلاق هذه القدرات ضمن الاقتصاد الحرّ فإننا نشهد الثورة الكبرى. ويمكن ملاحظتها هنا في النقب، وخاصةً في مدينة الفضاء الإلكتروني [في بئر السبع] حيث ننقل إليها الكفاءات التابعة للدولة من خلال انتقال وحدات المعلوماتية التابعة لجيش الدفاع إلى مقرّاتها الجديدة المحاذية لجامعة بن غوريون. وتتوفر هناك الكفاءات التابعة للدولة والكفاءات الأكاديمية لكن يُوجد أيضاً بمحاذاتها (على بعد 80 متراً) مجمَّع للفضاء الإلكتروني أخذت أكبر الشركات العالمية تشارك فيه لتوليد ذلك التطور العظيم. وصارت دولة إسرائيل في اللحظة الآنية، رغم أن عدد سكانها لا يتجاوز العُشر بالمئة (0.1%) من مجموع سكان العالم، تحصل في العام الجاري على نحو 20% من إجمالي الاستثمارات العالمية الخاصة في مجال أمن الفضاء الإلكتروني، حيث تنشط فيها مئات الشركات الناشئة [المتخصصة بهذا المجال]. وتضاعف [هذه الاستثمارات] 200 ضعف الوزن الديمغرافي النسبي لإسرائيل قياساً إلى مجموع سكان المعمورة، حيث [تحقق هذا الإنجاز اللافت] بفضل سعينا لتحقيق التكامل بين البنى التحتية الحكومية ومشاريع ريادة الأعمال الخاصة.

وهنا أتطرق إلى المقوّم الثالث [من مقومات القوة الإسرائيلية] وفق تصور بن غوريون المتمثل- إلى جانب القوة العسكرية والقوة الاقتصادية- بالقوة السياسية. إذ كان بن غوريون قد بادر، على أثر الطوق الخانق العربي المحيط بنا، إلى عقد التحالفات التي شقّت الطرق الجديدة مع الدول الواقعة خارج الدائرة الأولى متمثلة بأثيوبيا وتركيا وإيران وغيرها. أما ما جرى في هذه الدول مع مرّ السنين فإنه لا يلغي صواب تصور بن غوريون الخاص بضرورة عقد التحالفات. إن أي دولة، ولو كانت من الدول العظمى ناهيك عن الدول الصغيرة مثل إسرائيل، تحتاج إلى التحالفات.

ويتمثل هنا تكامل قواتنا العسكرية والاستخبارية وطاقاتنا الاقتصادية والتكنولوجية بصورة تمكّننا من إنتاج التحالفات استمراراً لرؤية بن غوريون بشكل دقيق ولكن على نطاق أوسع بكثير مما كان من الممكن تخيّله في عصره. وأصبحت إسرائيل حالياً تغرق بالطلبات المقدمة إليها لتوثيق العلاقات [مع الدول الأخرى] بفضل هذيْن المكوِّنَيْن أي الإرهاب (أم بالأحرى مكافحة الإرهاب) والتقنيات. وتأتي إلينا الدول الأسيوية الكبرى- الصين والهند واليابان وفيتنام ناهيك عن روسيا- إضافة إلى دول إفريقيا وأميركا اللاتينية وبعض الدول في المنطقة. ونكوّن العلاقات الجديدة التي تكمن فيها، بنظري، أفضل فرصة لدفع السلام بيننا وبين الفلسطينيين.

وينطوي الأمر على تغيير جذري، بمعنى أن فكرة التحالفات وفكرة الانطلاق نحو المناطق الأبعد التي كان بن غوريون قد صاغها، أصبحت تتجسد اليوم بصورة عملية غير مسبوقة في تأريخ دولة إسرائيل. وعليه فلم تعُد مسألة نجاحنا في الاستفادة من العلاقات الثنائية المتزايدة والمزدهرة في المنتديات الدولية مثل الأمم المتحدة وحتى في اليونيسكو [وكالة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم]، لم تعُد إلا مسألة وقت بل أرى أن الأمر لن يستغرق طويلاً.

وكان بن غوريون قد صاغ عام 1953، على ما أعتقد (عندما كان وزيراً في حكومة موشيه شاريت)، عبارته المعروفة: "أوم شموم" [تعبير ساخر باللغة العبرية يعني حرفياً: "الأمم المتحدة لا تساوي شيئاً"]. غير أن الأمر ليس كذلك تماماً، على اعتبار أن الأمم المتحدة قد تشكل عائقاً كبيراً. وما زال هذا الاحتمال وارداً على المدى القصير، حيث تستطيع الأمم المتحدة اعتماد قرارات [معادية لإسرائيل] واتخاذ إجراءات خطيرة وصارمة بحقنا، لكنني أعتقد بأن ما نشهده خلال السنوات المقبلة سيسير بالاتجاه المعاكس.

ومما لا شكّ فيه أننا أصبحنا نشاهد بأعيننا مسيرة انطلاقنا نحو فضاءات جديدة ونجاحنا في تحويل قوتنا العسكرية والاقتصادية إلى قوة سياسية. وتتجلى هذه المسيرة، في المقام الأول، بأول تحالف نتمتع به، ذلك التحالف الذي يخالف غيره من العلاقات القائمة على المصالح الكثيرة المدعومة بالقيم المشتركة القليلة، ذلك لأن التحالف المذكور يقوم أولاً على القيم المشتركة ثم تليها المصالح المشتركة. غني عن القول إنني أقصد بذلك التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية. وكان بن غوريون يدرك أهمية هذه الصلة، على الرغم من أن علاقاتنا مع الولايات المتحدة في ذلك الحين كانت تختلف تماماً عما هي عليه حالياً، علماً بأن الانسحاب من سيناء [بعد حملة سيناء المنوَّه بها عام 1956] قد فُرض عليه بفعل التوافق الأميركي والروسي (السوفياتي). لكن علاقاتنا مع الولايات المتحدة قد تطورت كثيراً منذ ذلك الحين، خاصة بفضل توجهنا لمخاطبة الرأي العام الأميركي الذي صار يدعم إسرائيل بمعدلات عالية جداً ما زالت تتزايد كل عام، حيث أدى الأمر إلى توقيع مذكرة التفاهم الإستراتيجي الأخيرة التي طلبتُ إنجازها، شأني شأن الرئيس أوباما، في هذه الأيام. ويسرّني إنجازها، كما تدعوني إلى السرور استمرارية هذه الصلة، أم هذا التحالف الأساسي الأهمّ، وامتدادها إلى الرئيس [الأميركي] المنتخب القادم وفريقه. وكانت هذه الأمور ستدعو أيضاً بن غوريون إلى السرور، حيث أعتقد بأنه كان سيفهم حقيقة تطابقها بشكل أساسي مع رؤيته الخاصة بضمان مستقبل دولة إسرائيل.

أرجو أن أقول كلمة أخرى عن هذا المكان المميَّز. إذ كان تطوير النقب هدفاً رئيسياً بالنسبة لبن غوريون، كما أنه لا يزال هدفاً وطنياً نقوم بتطبيقه اليوم. وكان بن غوريون قد قام بأول زيارة له للنقب عام 1935 حيث وصل حتى أم الرشراش وتكوَّن لديه انطباع بشأن فوائد خليج إيلات. وأشعلت تلك الزيارة لديه فكرة حلّ ضائقة اليهود من خلال استقدامهم إلى البلاد واستيطانهم في النقب. بالطبع كانت هذه الفكرة غير قابلة للتطبيق في ثلاثينات القرن الماضي حيث كانت أبواب البلاد مغلقة [أمام الهجرة اليهودية]، مما حال دون إنضاج الخطة. غير أن بن غوريون، الذي أدرك حجم الفرص الكبرى الكامنة في النقب، لم يتخلَّ عن تلك الفكرة بل ظلّ يتحيّن الفرصة التي تسمح بزرع الوتد الصهيوني في أرض النقب.

وقد حدثت [الانطلاقة] قبل 70 عاماً على النحو التالي: إذ حشد المجتمع اليهودي في البلاد طاقاته أواخر عام 1946 لإقامة "النقاط الإحدى عشرة" [11 تجمعاً سكانياً] في النقب الشمالي. وجرت تلك الحملة المعقدة والجريئة رغم عيون البريطانيين الساهرة. وحسم نجاح تلك الحملة، إلى حد كبير، مصير المنطقة. بالطبع تحولت تلك "النقاط" مع مرور الزمن إلى تجمعات سكنية مزدهرة. وقد سنحت لي قبل عاميْن، خلال عملية "الجرف الصامد" [في قطاع غزة عام 2014]، فرصة الاطّلاع على مناعة أفراد هذه النقاط حيث كان من المستحيل عدم التأثر بسلوكهم الذي يوحي بجذورهم الثابتة وبإصرارهم على التمسك بمواقعهم رغم تعرضها لتهديد الأنفاق والصواريخ [من قطاع غزة].

وكان بن غوريون قد قال: "ما كان على مدى قرون صحراء جرداء أصبح ينهض وينمو مجدداً بعد استثمار العقول والقلوب اليهودية والحب والعمل فيه"، ثم أردف يقول: "سوف تلي مئات [التجمعات السكنية] النقاط الحادية عشرة". وكان قرار بن غوريون الانضمام إلى قرية سديه بوكير التعاونية والانتقال للسكن في "التخشيبة" عام 1953 قد جاء في مسعى منه لإقامة مئات [التجمعات السكنية] أو، على الأقل، لاستقدام الآلاف وعشرات الآلاف بل مئات الآلاف من المواطنين الذين سيتبعونه ويذهبون إلى النقب. غير أنه لا بدّ من الإقرار بالحقيقة: إن الجماهير لم تأتِ [إلى النقب]، على الأقل في تلك الفترة، لكنهم أصبحوا يأتون اليوم. وهكذا يجري هنا ما لم يحدُث في الماضي، حيث نقوم بتحقيق رؤية بن غوريون. هذا ما نفعله تحديداً لكننا نطبق تلك الرؤية بطريقة جديدة تتكامل فيها الاستثمارات الحكومية المكثفة بالمبادرات الخاصة. ولم يعُد النقب منطقة نائية يتم إلقاء الضعفاء من أبناء المجتمع فيها، بل صار النقب ميداناً للفرص الجديدة في دولة إسرائيل.

وما زالت الرؤية تطابق رؤية بن غوريون لكن طريقة تطبيقها مختلفة لتستند بجوهرها إلى تكامل الاستثمارات الحكومية في البنى التحتية مع تشجيع مشاريع ريادة الأعمال على نطاق واسع. وأصبحت الدلائل على نتائج هذا المسعى بيّنة، إذ يشهد النقب تغييراً هائلاً وبات يزدهر بمعايير التأريخ، لا بل إنه سيزداد ازدهاراً. ونقوم بإيصال النقب بأواسط البلاد وشطب مصطلح "المناطق المحيطية المهمَّشة". ونستثمر بالطرق وخطوط السكك الحديدية وبإنشاء مطار دولي جديد في تِمناع القريبة من أم الرشراش [إلى الشمال من إيلات]. كما نستمر في إجراءات نقل جيش الدفاع [بالأحرى عدد من القواعد والوحدات العسكرية الكبرى] إلى جنوب البلاد، حيث قمنا قبل 3 أسابيع بتدشين "مدينة القواعد التدريبية العسكرية" الرائعة التي نمت وسط الصحراء القاحلة لتكون مسكناً لأكثر من 10 آلاف جندي بما تحويه من منشآت حديثة وتقنيات وتقدّم راقٍ. يجدر زيارتها والاطّلاع على كل هذه الأمور الاستثنائية، حيث لا أتحدث عن المباني والتقنيات وحدها بل أيضاً على الروح التي نهضت هناك في قلب الصحراء. أيها رئيس الأركان غادي [أيزنكوت]، أرجو أن تنظم الرحلات التعريفية [إلى "مدينة القواعد التدريبية العسكرية"] من أجل المواطنين الإسرائيليين ممن لم يتسنَّ لهم زيارتها حتى الآن. إنك ستجد الطريقة الملائمة لذلك كما تجدها في جميع الأحوال.

كما أننا نقوم بنقل وحدات المعلوماتية التابعة لجيش الدفاع إلى مقرّ جامعة بن غوريون. وعليه تكتسب بئر السبع أهميتها بصفتها محركاً عالمياً للنمو في مجال الفضاء الإلكتروني. وتلتحق بها كل من ديمونا ويروحام وسديروت وكريات غات [عدد من أهم مدن وبلدات النقب]. وإذا كانت كريات غات مصنَّفة في الماضي على أنها جزء من النقب فلم يعُد هناك ما يُطلق عليه اسم "النقب" أو "جنوب البلاد"؛ وإذا كان يُشار إلى النقب [من باب السخرية] على أن اسمه مشتقّ [باللغة العبرية] من كلمة "مسح" [بمعنى إزالة] كونه منطقة يُمسح فيها كل شيء لتكون أرضاً خالية جافة، فإن الأمور لم تعُد كذلك. وأصبح كل شيء يتغير، وأخذت جميع التجمعات السكنية في النقب تزداد متانة، حيث إنني على يقين من أن دافيد بن غوريون بإمكانه الخلود إلى الراحة في مرقده [مطمئناً إلى تحقيق رؤيته بشأن النقب].

ولا أريد القول إن كل شيء أصبح يتسم بالكمال حيث ما زال هناك ما يقتضي الإصلاح والتحسين والبناء والإنتاج، إلا أن عملية نسج الخيوط ها هي جارية أمام أعيننا. ويطال الأمر النقب وعموم دولة إسرائيل، حيث لا يقتصر على مقارنة إسرائيل بالمنطقة المحيطة بها (كون مقارنة كهذه صارت عديمة الفائدة في الفترة الحالية..) بل يشمل مقارنتها بأوروبا وإفريقيا وآسيا والنصف الغربي من الكرة الأرضية. إن دولة إسرائيل هي بمثابة معجزة، لكن أسباب هذه المعجزة قابلة للشرح، ذلك لأنها تستند إلى أسس راسخة كان بن غوريون قد رسمها. غير أن كل الأمور ترتكز في نهايتها إلى القاعدة الأولى المتمثلة بروح شعبنا الصامدة. إذ [نستمدّ قوتنا] من صلتنا بأرض الأجداد، أي من جذورنا الضاربة عميقاً في أرض الوطن، إلا أننا نتمتع أيضاً بأغصان التقدم التي تتنامى وتتسامى باستمرار. وقد شهدتُ هذه الروح هنا اليوم أيضاً خلال لقائي بأولئك الشبان. ما أعظم شعورهم بالالتزام! ما أكبر حماسهم للعمل! ما أشدّ تمسكهم بالصهيونية! هذه هي روح بن غوريون، كما أنها الروح القائمة لدينا.

لتكن ذكرى دافيد وبولا [زوجته] بن غوريون محفوظة في قلب الأمة ومباركة إلى أبد الأبدين.