كلمة رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو خلال مراسم انطلاق فعاليات ذكرى المحرقة النازية (الكارثة والبطولة) في مقرّ مؤسسة "ياد فشيم" بأورشليم القدس

فخامة رئيس الدولة رؤوفين ريفلين وعقيلته،
أيها الأفاضل الكثيرون، وعلى رأسهم إخواننا وأخواتنا الناجون من براثن المحرقة الذين يوقدون مشاعل الذكرى والأمل،

كنتم قد جعلتموني في حالة من التأثر الشديد. إذ التقيتكم بالأمس بمعية عقيلتي في ديواني، حيث تحدثتم بما يفصح عن مكنونات قلوبكم وسردتم قصة حفاظكم، وسط ظروف لاإنسانية، عن صورتكم الإنسانية وتمسككم بالحياة وتكوينكم هنا- في إسرائيل- الحياة الجديدة. ويجب علينا أن نمكّنكم، أي جميع الناجين من المحرقة والباقين على قيد الحياة رغم ويلاتها، من الاستمرار في عيش حياتكم بحالة من الرفاهية والكرامة.

أيها السيد رئيس الدولة، إنك على حق فيما قلته [مشيراً إلى الانتقادات التي وجهها رئيس الدولة في كلمته السابقة بهذه المناسبة لكيفية تعامل مؤسسات الدولة مع الناجين من المحرقة]. إذ لم نعمل ما فيه الكفاية على مر السنين. غير أننا أنفقنا خلال السنوات الأخيرة المزيد من الموارد [لهذا الغرض] وسوف ننفق المزيد، حيث يعود الأمر إلى سبب واحد وبسيط، ألا وهو أنكم [مخاطباً الناجين من المحرقة] تستحقون ذلك. إنه حق لكم وليس نعمة من أحد؛ إنه الديْن الواقع على دولة إسرائيل وسوف نسدده.

هناك رسالة واضحة يمكن استدلالها من لقائنا [قاصداً لقائه الآنف الذكر بمجموعة الناجين من المحرقة النازية] وهي كالآتي: لا يجوز أن تتكرر هذه المأساة التي حلت بشعبنا ثانية. ها أنني أكرر الالتزام في هذه المناسبة الجارية في عاصمتنا الأبدية أورشليم القدس: لن تكون هناك محرقة أخرى!

ترى، ما الأمر الذي مهَّد للمحرقة؟ ما الذي أفسح المجال أمام عجلات آلة القتل النازية لممارسة عملها؟ إن الإجابة هي الكذب. إذ كانت الدعاية النازية تصوِّر اليهود على أنهم منبع كل شرور العالم ومسمِّمو الآبار ومتطفلون ويُعادون الإنسانية. وقد سبق هذا القذف والتشهير بحق اليهود عمليات إبادتهم. وكان قد تم القضاء على نظام الحكم النازي في ألمانيا قبل 71 عاماً إلا أن معاداة السامية وأكاذيبها لم تمُت مع هتلر [زعيم ألمانيا النازية] في ذلك الملجأ في برلين [حيث أقدم على الانتحار مطلع أيار مايو 1945].

ذلك لأن هناك حالياً الملايين من الناس في العالم الإسلامي الذين يقرؤون ويسمعون الأكاذيب المروعة عن الشعب اليهودي. ويُقال لهم إن اليهود هم أبناء القردة والخنازير وأنهم (وأستشهد بهذا الكلام) "يشربون بكؤوسهم دماء أعدائهم". وتنتشر هذه الأكاذيب وغيرها عبر شبكات التواصل الاجتماعي بوسائل ترويج لما كان هتلر وغوبلز [وزير الإعلام النازي] يتخيلانها. وتعود مظاهر هذا التحريض إلى التشدد الإسلامي وإلى العالم العربي، لكنها تقترن خلال السنوات الأخير بمظاهر من التحريض لا تقلّ عنها سُمِّيةً في العالم الغربي لتطال برلمانيين بريطانيين ومسؤولين سويديين وعدداً من صناع الرأي الفرنسيين. وعليه يتعيَّن عليّ القول إن معاداة السامية في أيامنا تقوم على المزاوجة الغريبة بين رجال النُخب التي تدّعي تمثيلها للرقي الإنساني وأشد المتطرفين الهمجيين ظلامية على وجه الأرض الذين يقدمون على قطع الرؤوس وقمع النساء واضطهاد مثليي الجنس وتخريب الكنوز الحضارية. ويتعاون كل هؤلاء على نشر فيروس معاداة السامية واضعين نصب أعينهم هدفاً واحداً دون غيره يتمثل بنا، أي بدولة إسرائيل وهي الدولة الديمقراطية الحقيقية الوحيدة في الشرق الأوسط التي تحمل قيم التقدم وكرامة الإنسان.

إن عداء هؤلاء لإسرائيل قد تجاوز منذ أمد بعيد حدود النقد الموضوعي (إنْ كان موجوداً أصلاً ذات مرة). إنهم ينفون إطلاقاً حق اليهود في أن تكون لهم دولة خاصة بهم. وإذا كانت الجهات المعادية للسامية تصوّر اليهود على مر العصور على أنهم يعادون الإنسانية فإنهم أصبحوا الآن يصوّرون دولة اليهود على أنها تعادي الإنسانية. وتتجاوز هذه الأكذوبة كل الحدود.

ولم يمضِ إلا أسبوعان على قرار منظمة (اليونسكو) [الدولية للتربية والعلوم والثقافة] التابعة للأمم المتحدة- حيث يجب الاستماع إلى هذا الكلام لغرض تصديقه أصلاً- الذي يدّعي بأن جبل الهيكل أو جبل موريا [أقدس مكان بالنسبة للدين اليهودي في أورشليم القدس حيث كان الهيكلان المقدسان يقعان عليه وهو الموقع المسمى حالياً الحرم القدسي الشريف] لا صلة له بالشعب اليهودي. لاحِظوا ما يجري هنا: إن منظمة عالمية قائمة على حفظ التأريخ تقوم عفوياً بإعادة كتابة حقيقة أساسية في التأريخ البشري.

ويمثل ذلك نوعاً من "الجهل الطوعي"، بل الأدهى من ذلك- إنه نوع من الإدمان على الكذب ونشره في ربوع المعمورة سعياً لجعله حقيقة ثابتة. وكان كل أعداء شعب إسرائيل ينتهجون نفس النهج تماماً على مرّ العصور. أما اليوم فإنهم يعمدون إلى إخفاء جذور النزاع القائم بيننا وبين الفلسطينيين والعائدة إلى رفضهم الاعتراف بدولة إسرائيل أياً كانت حدودها. إنهم يبررون أفظع مظاهر العنف الذي يستهدفنا ويتّهموننا بالمسؤولية عن الاعتداء الإرهابي في باريس [في نوفمبر تشرين الثاني الماضي] ويجعلون الضحية معتدياً والمعتدي ضحية.

كان النازيون يقولون: "كل الحق على اليهود". أما أولئك الذين يعادون السامية الآن فيقولون: "كل الحق على إسرائيل". وكان الكثير من آباء الحركة الصهيونية يرون أن هذا العداء المرضي لليهود مردّه الحالة الخاصة لأبناء شعبنا كونهم مشتَّتين بين الشعوب. وكانوا يأملون، لا بل كان عدد غير قليل منهم يعتقدون بذلك، في زوال العداء الموجَّه إلى اليهود إذا أصبحت لديهم دولة خاصة بهم. أيها الأكارم، يؤسفني القول إن واقع الأمور إنما يدل على أن تلك الفرضية الموحية بالتفاؤل لآباء الصهيونية كانت خاطئة تماماً. وإذا كان هناك مَن اعتقد بأن الصهيونية هي الدواء الشافي لمعاداة السامية، فقد صار هناك الآن من يعتقد بأن الصهيونية هي السبب في معاداة السامية، لكن هذا الاعتقاد خاطئ أيضاً.

إن معاداة اليهود تستمدّ مفاهيمها من مصادر متعددة وقديمة ما يعني أنها لن تتلاشى بسهولة. وعليه تقتضي محاربتها الإقدام على ثلاث خطوات: محاربة الكذب، وتكريس قوتنا، وإعمار دولتنا. ولا يوجد إلا طريق واحد لمحاربة الكذب ألا وهو تفنيده ونشر الحقيقة. فالحقيقة تعني الإصرار على الحقائق التأريخية وفي مقدمتها الصلة الوثقى التي تربط شعبنا ببلاده. كما أن الحقيقة تعني التنديد بازدواجية المعايير الأخلاقية الممارَسة بحق دولة إسرائيل حصراً. ويجب علينا حشد طاقاتنا لنشر الحقيقة بنفس مقدار اللهفة التي يحشد فيها أعداؤنا طاقاتهم لنشر الكذب.

يجب على كلٍ منا حشد طاقاته في هذه المعركة. ثمة حقيقة أخرى أرجو أن أعرضها عليكم: صحيح أن نشر أقدم العداوات بأحدث التقنيات لهو أمر سهل في العالم الافتراضي، إلا أنه يجوز بنفس القدر استخدام ذات التقنيات لنشر الحقيقة، علماً بأن هذه التقنية ها هي متوفرة في جيوب كل واحد منكم. إذ يملك كل منكم إما في جيبه أو في منزله الآلة الإلكترونية التي تمكّنه من نشر الحقيقة. وأدعوكم للقيام بذلك، علماً بأن الكثير من أبناء شعبنا بدأوا يعملون ذلك في البلاد والعالم. كما أناشدكم أيضاً، أيها ممثلو الإنسانية المستنيرة، حشد طاقاتكم لرد هذه الأكاذيب، ذلك لأن معاداة السامية- كما كان هرتصل [مؤسس الحركة الصهيونية] قد استشرفها وكما ثبت في صعود النازية- هي مأساة اليهود لكنها ستؤدي حتماً إلى إنزال الكارثة بالبشرية جمعاء، مما يحتّم علينا جميعاً مكافحتها.

كما يتحتّم علينا، إلى جانب الصراع على الحقيقة، الاستمرار في بناء قوتنا الدفاعية، ذلك لأننا نستطيع صدّ الهجمات القاتلة علينا حتى وإنْ عجزنا عن اجتثاث معاداة اليهود من جذورها. وبالتالي ننمّي باستمرار قوتنا الأمنية. وإذا كنا طيلة عهود مثل الورقة التي تتقاذفها الرياح [علامة الضعف] عاجزين فاقدي القوة فإننا لم نعُد كذلك.

إن جيش الدفاع هو من أقوى جيوش العالم. ولا يعود الفضل في ذلك إلى الدبابات والطائرات والغواصات وكفاءة الأداء في العالم الافتراضي وحدها، بل إنه يعود بادئ ذي بدء إلى روح جنودنا البطولية. ها هم واقفون أمامنا وإلى جانبهم جميع الأجهزة الأمنية والشرطة وجهاز الأمن العام (الشاباك) وجهاز الموساد. إنهم يستلهمون ببطولات أبناء شعبنا الذين كانوا قد حاربوا النازيين سواء ضمن جيوش دول التحالف [المناهضة لألمانيا النازية إبان الحرب العالمية الثانية] أو في الغيتوات والمعسكرات والغابات.

لقد استخلصنا العبرة. لم نعُد نتجاهل أولئك الداعين إلى إبادتنا لكننا لا نرتدع منهم. وهناك من يودّ التغاضي عن نوايا إيران التي تكتب على صواريخها الكلمات "سيتم القضاء على إسرائيل" وتجري مسابقة حول إنكار حقيقة وقوع المحرقة، حيث أقصد مسابقة للرسومات الكاريكاتيرية التي تنكر وقوع المحرقة والجارية في هذه الأيام. هل هناك ما يفوق ذلك من حيث العقلية المرضية؟ إننا لا نغضّ الطرف عن ذلك. وإذا كان هناك من صار مستعداً للتسليم بامتلاك إيران ذاتها للسلاح النووي فإننا لا ولن نسلّم بهذا الأمر. فليعلم كل المتآمرين على إبادتنا أن دولة إسرائيل تملك القوة الكبيرة، سواء أكانت قوة دفاعية أو قوة هجومية أو قوة رادعة. لقد ولَّت تلك الأيام حيث كان العدوّ اللدود يتمتع بالإقامة الآمنة، بل صارت يهودا [دولة بني إسرائيل القديمة كما جاء ذكرها في التوراة] هي الآمنة.

ويتعيّن علينا أيضاً، بالإضافة إلى تفنيد الأكاذيب وتكريس قوتنا، مواصلة إعمار دولتنا، وها نحن نطوّر إسرائيل بخطوات حثيثة. إذ تمكنت إسرائيل على مدى سنوات استقلالها الـ68 من مضاعفة مجموع عدد سكانها 10 أضعاف ومن مضاعفة حجم اقتصادها 100 ضعف. لقد استوعبنا القادمين الجدد من 70 جالية، في الوقت الذي أصبحنا فيه نضع البنى التحتية ونمدّ خطوط السكك الحديدية ونخترق حدود العلم والتقنيات والثقافة والفنون وشتى مناحي الحياة. إن إسرائيل هي الدليل الدامغ على قوة الإبداع والحياة التي تختلج في قلوب أبناء الشعب اليهودي. أيها الناجون من المحرقة، إننا جميعاً نستلهم بالطاقة الكامنة فيكم. إنكم تشكلون، كونكم قد شهدتم الفظائع النازية، دليلاً حياً على النور الذي انبثق من ظلمات الموت. إن أحفادكم وأبناء أحفادكم يسيرون مرفوعي القامة ليساهموا- مثلهم مثلكم- في أمن الدولة وإعمارها وازدهارها.

كان النبي إشعيا قد وعد النائحين في صهيون بمنحهم الغار بدل الرماد [بناءً على ما ورد في سفر إشعيا، الفصل 61، الآية 3]، حيث يمثل الأمر خلاصة نهضتنا القائمة على استبدال الرماد بالمجد. إن إسرائيل المزدهرة تدل أكثر من أي شيء آخر على انتصار النور على الظلام وانتصار الحياة على الموت وانتصار الحقيقة على الكذب.