الكلمة التأبينية التي ألقاها رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو أثناء مراسم جنازة الرئيس التاسع لدولة إسرائيل شمعون بيرس رحمه الله

تسيكي [تسفيا فالدان، إبنة الرئيس الراحل بيرس] ورافي [زوجها]،
يوني [بيرس، إبن الرئيس الراحل] وسيغال [زوجته]،
حيمي [بيرس، إبن الرئيس الراحل] وغيلا [زوجته]،
الأحفاد وأبناء الأحفاد وغيرهم من أفراد عائلة بيرس العزيزة،
فخامة رئيس الدولة [الحالي رؤوفين ريفلين]،
الرئيس [الأميركي، باراك] أوباما،
الرئيس [الأميركي الأسبق، بيل] كلينتون،
ملك إسبانيا فيليبي،
[ولي العهد] البريطاني الأمير تشارلز،
الدوق الأعظم للوكسمبورغ،
رؤساء الدول والحكومات والوزراء،
الأصدقاء الذين أتوا سواء من قريب أو من بعيد،
أيها الأكارم الكثيرون من البلاد والخارج،

لقد وصلتم من قريب ومن بعيد إلى أورشليم القدس عاصمة إسرائيل لتكرّموا في المرة الأخيرة شمعون بيرس وهو من الآباء المؤسِّسين لدولتنا وأحد أعظم القادة الذين نشأوا لدى شعبنا، زعيم فذّ في عالمنا، ذلك الرجل المتميز شمعون بيرس.

أرجو تقديم الشكر لكم جميعاً على حضوركم اليوم. إن وصول عدد كبير كهذا من القادة من ربوع المعمورة لتوديع شمعون [بيرس] إنما يدل على مدى تفاؤله وتطلّعه إلى السلام ومحبّته لإسرائيل. إن المواطنين الإسرائيليين يشاركونكم التقدير الذي تكنّونه لشمعون [بيرس] وللدولة التي كرّس حياته من أجلها. وكان شمعون يعيش حياة هادفة، وقد تمكن من الإقلاع والتحليق في مسافات عالية مؤثرة، حيث كانت لرؤيته وأمله قوتهما الجارفة بالنسبة لكثيرين. إنه كان رجلاً شهماً من أبناء شعب إسرائيل ورجلاً شهماً في العالم بأسره. وتحزن إسرائيل- وكذلك العالم- على رحيله، إلا أننا- مثل العالم برمته- نتعزّى بتراثه.

أيها الأصدقاء، لم يحظَ شمعون بيرس بشرف العيش حياة مديدة فحسب بل نال أيضاً شرف الحياة الهادفة. إنه كان شريكاً هاماً في مشروع النهضة الوطنية للشعب اليهودي، وكان ابناً من أبناء جيل خرج من العبودية إلى الحرية وضرب جذوره عميقاً في تراب الوطن وأمسك بـ"سيف داود" دفاعاً عنه. وصنع شمعون [بيرس] الأعمال العظيمة والكبرى ضماناً لقوتنا الحامية على مدى أجيال ما يجعله يستحق شكر وامتنان أبناء هذه الأجيال. كما أنه عمل، بموازاة ذلك، كل ما كان في وسعه، وخلال أي لحظة من لحظات حياته الراشدة، من أجل تحقيق السلام مع جيراننا.

لا يُخفى على أحد أن شمعون [بيرس] كان من خصومي السياسيين لكننا أصبحنا صديقيْن على مرّ السنين بل حتى صديقيْن قريبيْن. وقد سألتُه خلال أحد اللقاءات الكثيرة التي عُقدت بيننا في مقرّ رئاسة الدولة، وكان ذلك في ساعة متأخرة من الليل: "قُل لي، يا شمعون، وأنت تنظر إلى الوراء وقد أدركتك الشيخوخة، أيّ من الزعماء الإسرائيليين كان محلّ إعجابك؟"، ثم استبقتُ إجابته بالقول: "من البديهي بالنسبة لي القول إن [الزعيم الأول الذي كنتَ معجَباً به] هو دافيد بن غوريون [رئيس الوزراء الأول] ذلك لأنك تتلمذتَ على يده". وبالفعل كان شمعون [بيرس] قد شهد خلال فترة شبابه بن غوريون، مؤسِّس استقلالنا، وهو يتحمّل عبء المسؤولية عن بناء دولة إسرائيل ومصيرها. غير أنه ذكر خلال ذلك الحديث الذي دار بيننا [رئيسيْ الوزراء الراحليْن] رابين وبيغين وأسماء أخرى، ويجب القول إنه أبدى تقديره الحقيقي للمساهمة المميزة التي قدمها كل منهم. كما أنه فاجأني قليلاً حينها عندما ذكر اسم شخص آخر، ألا وهو الراحل موشيه ديان [وزير الدفاع 1967-1974 ثم وزير الخارجية 1977-1979]، إذ لفت شمعون [بيرس] إلى شجاعته في القتال وأصالة أفكاره وتحدث أيضاً عن خصلة أخرى من خصاله حيث قال: "كان موشيه [ديان] لا يبالي شيئاً بما يُقال عنه، وكان يتجاهل تماماً الاعتبارات السياسية وكان يعيش حياته كما كان يتمنّاها".

وكان شمعون [بيرس] يقدّر هذه الشِيَم لكنه كان يعي حقيقة أخرى: إذا أردتَ تحقيق الأهداف التي تؤمن بها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً فلا يمكنك عملياً الانفصال عن الممارسة السياسية. وبالتالي ظل هذا التوتّر القائم بين رجل الدولة والسياسي الحزبي مندمجاً في شخصية [شمعون بيرس] خلال العقود الخمسة التي امتدّ إليها عمله في مجالس الكنيست والحكومات المتعاقبة. إنه كان يحلّق على أجنحة الرؤية لكنه كان يعلم علم اليقين بأن مدرج الإقلاع إنما يمرّ عبر حقل السياسة المزروع بالألغام. غير أنه كان يتمكّن، بفضل وهج العمل والرؤية لديه، من التعرّض للحجارة التي كانت تُلقَى عليه ثم النهوض مجدداً.

وقد اطّلعتُ لأول مرة على هذا الوهج الذي كان محتدماً لديه هنا تحديداً، على هذا الجبل [مقبرة جبل هرتصل في أورشليم القدس] قبل 40 عاماً. إذ جرت هنا مراسم جنازة شقيقي يوني [نتانياهو] بعد مضي يوميْن على إنجاز العملية البطولية لإنقاذ [الرهائن الإسرائيليين والأجانب الذين اختُطِفوا على متن طائرة للخطوط الجوية الفرنسية] في عنتيبي [بأوغندا]. وكان شمعون [بيرس] بصفته وزيراً للدفاع آنذاك، ومعه رئيس الوزراء الراحل يتسحاق رابين، هو الذي صادق على هذه العملية ثم ألقى خلال تلك الجنازة كلمة تأبينية ترتجف لها القلوب ولن أنساها ما دمتُ حياً. وكانت هذه أول فرصة سنحت لي للقائه. وقد تأثر والديَّ رحمهما الله وشقيقي [الآخر، عيدو نتانياهو] وأنا شخصياً عميقاً بما قاله عن يوني [نتانياهو] وعن العملية وعن الصلة التي تربطنا بأجدادنا وعن شموخ قامة شعبنا. وقد نشأت بيننا منذ تلك اللحظة صلة وثقى مميزة لم تنفصم قط تحت أي ظرف.

وعلى الرغم من عدم اتّفاقنا، شمعون [بيرس] وأنا، على كثير من المسائل، فإن هذه الخلافات لم تُلقِ بظلالها على اللقاءات الكثيرة والحميمة وذات العِبَر التي كنا نعقدها. وكانت الصداقة الشخصية بيننا تزداد عمقاً من لقاء إلى آخر رغم أننا لم نَسْعَ قط إلى طمس الخلافات في مواقفنا كلما وُجِدت أصلاً. وقد تطرقنا خلال لقاء آخر عقدناه في مقرّ رئاسة الدولة واستمرّ حتى ساعات الليل إلى مسألة أساسية: من وجهة النظر الإسرائيلية، ماذا يجوز أن يكون المحور الرئيسي، الأمن أم السلام؟ وشدد شمعون [بيرس] حينها بحماسة على موقفه قائلاً: "يا بيبي [اسم الدلع لرئيس الوزراء نتانياهو]، إن السلام يمثل الأمن الحقيقي، وإذا تحقق السلام فسوف يتحقق الأمن". أما أنا فأكدتُ له: "يا شمعون، في الشرق الأوسط يُعتبر الأمن شرطاً ضرورياً لتحقيق السلام ولبقاء السلام". وقد احتدم الجدل بيننا وتناقشنا حول الموضوع ساعة مطولة وكنا نرمي بعضنا البعض بالمواقف والآراء، حيث كان اليسار منطلقه بينما كنت منطلقاً من اليمين.

أما في الختام، وكأننا ملاكِمان أدركهما الإرهاق، فقد توقفنا عن التعارُك. وحينها لمستُ في عينيْه، مثلما كان هو- على ما أعتقد- يلمس الأمر في عينيَّ، أن هذه الصرامة [في موقف كل منا] إنما تنجم عن قناعة داخلية عميقة وعن التشبث بذات الهدف، ألا وهو ضمان مستقبل الدولة.
الكلمة التأبينية التي ألقاها رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو أثناء مراسم جنازة الرئيس التاسع لدولة إسرائيل شمعون بيرس رحمه الله

أيها الأصدقاء، أتَعْلَمون ما هو الاستنتاج المفاجئ الذي توصلتُ إليه مع مرور الوقت؟ إن كليْنا على حق. ذلك لأن السلام لن يتحقق في منطقة الشرق الأوسط المضطربة، حيث لا يصمد إلا الأقوياء، إلا من خلال السعي المستديم لضمان قوتنا. غير أن القوة بحد ذاتها ليست غاية بل إنها وسيلة، إذ إن الغاية تتمثل بالوجود والتعايش والتقدم والازدهار والسلام لننعم بها جميعاً نحن وشعوب المنطقة وجيراننا الفلسطينيون.

أيها الأكارم، كان شمعون بيرس قد توصل أيضاً إلى الاستنتاج القائل إن العدالة ليست حكراً على معسكر سياسي دون غيره. إذ حضر [الراحل بيرس] بعد مرور يوم على إقامة مراسم تنصيبه رئيساً تاسعاً لدولة إسرائيل، المراسم التي أقيمت لإحياء ذكرى زئيف جابوتينسكي [1880-1940، من أبرز القيادات الصهيونية في عصره ومؤسس التيار اليميني في الحركة الصهيونية] الذي أعتبره من أساتذتي الروحانيين. وقد أدلى شمعون [بيرس] في تلك المناسبة بالأقوال الآتية: "لقد حمّل التأريخ التياريْن الرئيسييْن في الحركة الصهيونية، أي الحركة العمالية ثم حركة جابوتينسكي، مهمَّة قيادة المشروع الصهيوني. وقد تقلّصت الفجوات العقائدية بين المعسكريْن حول كثير من القضايا لينتمي حالياً أبناء كلا التياريْن إلى أحزاب سياسية مشتركة ويتشاركون في قيادة الدولة وهو شيء كان يستحيل تخيّله في الماضي البعيد". وعندها خلص شمعون [بيرس] إلى القول: "يبدو أن الملك سليمان كان محقاً في كلامه [الوارد أصلاً في سفر الجامعة من التوراة، الفصل 4، الآية 9] أن الاثنين خير من واحد". وعندما تفرّغ [الراحل بيرس] من إلقاء تلك الكلمة ذهبتُ إليه وصافحتُه بحرارة وشكرته بانفعال على كلمته الدالة على الوحدة والتماسك.

ومضت 9 سنوات على تلك الحادثة، حيث وصلتُ مع زوجتي قبل شهريْن لتكريم شمعون [بيرس] خلال حفل افتتاح "مركز بيرس للابتكارات". يا ترى، ما أكثر المواضيع التي تم ذكرها هناك من هندسة نانوية وطب وأبحاث الدماغ وحواسيب وأقمار صناعية وعلم الروبوتات، حيث كانت كل هذه المجالات مجموعة تحت سقف واحد. وكان وجه شمعون [بيرس] ينمّ عن مدى ارتياحه، حيث لا أستطيع أن أذكر أي مناسبة أخرى شاهدتُه خلالها سعيداً إلى هذا الحد، ذلك لأن أحد أحلامه قد تحقق. وقد وضع حينها النظارات ثلاثية الأبعاد على عينيْه التي تم الآن التبرّع بقرنيتيْهما لمصلحة الجيل القادم [أي لفائدة الأبحاث العلمية].

ولا أعتقد بأن هناك ما ينطوي على رمزية أكبر من ذلك. إذ كان شمعون [بيرس] ينظر دوماً إلى الأمام. وكان يؤمن- مثلما نؤمن نحن- بالتقدم والعلوم والتقنيات ومفاعيلها سواء من حيث تعزيز الأمن أو، أيضاً، بما يخصّ وضع البنى التحتية المؤهِّلة للسلام في المستقبل. وإذا قمنا بتنمية هذه القدرات وعملنا بحزم ضد أعداء التقدم، فإن الحداثة سوف تغلب الوحشية، ويغلب الخير الشرّ ويغلب النور الظلام!

عزيزي شمعون [بيرس]، كنتَ قد أخبرتَني بأن لحظة تلقّيك النبأ المرّ بسقوط شقيقي يوني [نتانياهو] في عنتيبي كانت من المناسبات النادرة حيث أذرفتَ فيها الدموع. لقد بكيتَ حينها، يا شمعون، وها أنا أبكي حداداً عليك اليوم. كنت أحبك، بل نحبك كلنا. إننا نقرأ عليك السلام، يا شمعون، حيث كنت رجلاً عزيزاً وقائداً فذاً، ونحفظ ذكراك في قلب الأمة، لا بل يجوز لي القول: في قلوب الأمم جمعاء.