كلمة رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو خلال مراسم إحياء ذكرى المحرقة النازية في مقرّ مؤسسة "ياد فشيم" في أورشليم القدس 15.4.15

فخامة رئيس دولة إسرائيل رؤوفين ريفلين وزوجته نحاما،
رئيسة المحكمة العليا مريام ناؤور وزوجها الأستاذ أرييه ناؤور،
رئيس الكنيست يولي إدلشتاين،
الحاخامان الأكبران لدولة إسرائيل،
وزراء الحكومة،
نواب الكنيست،
رئيس مؤسسة "ياد فشيم" أفنير شاليف،
الأفاضل الكثيرون من البلاد والعالم،
الناجون من المحرقة الأعزاء علينا،
أنصار الشعب اليهودي الذين يقدّمون قدوة للإنسانية جمعاء [لإنقاذهم بعض اليهود خلال فترة المحرقة]،
أيها المواطنون الإسرائيليون،

كانت أجراس الحرية قد رنّت في أنحاء العالم الحرّ قبل 70 عاماً [إيذاناً بانتهاء الحرب العالمية الثانية عند استسلام ألمانيا النازية في مايو أيار من عام 1945]. وانتهى في أوروبا آنذاك الكابوس المرعب الذي أغرق البشرية جمعاء في بحار الدماء. غير أن يوم النصر على النازيين لم يكن يوماً من الفرج والبهجة فحسب بل كان ممزوجاً بالحزن المفجع بالنسبة لشعبنا، إلى جانب كونه يوماً من محاسبة النفس بالنسبة لقادة الشعوب. وقد أدرك زعماء الدول المستنيرة أن هناك فرصة سانحة لتكوين نظام عالمي جديد يقوم على حماية الحرية ودحر الشرّ ومقاومة الاستبداد. إنهم كانوا يعبّرون بصوت عالٍ وجلي عن العِبْرة الرئيسية المستخلصة من الحرب العالمية الثانية، بمعنى أنه لا يجوز للدول الديمقراطية التغاضي عن النوايا التوسعية لأنظمة الطغيان. إن مهادنة هذه الأنظمة لن تزيدها إلا ميلاً للعدوان، وإذا لم يتم التصدي لهذا العدوان في موعده، فإن الإنسانية قد تتعرض لحروب أشدّ قسوةً بكثير.

وكان العالم الحرّ قد حاول في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية مهادنة النظام النازي وكسب ثقته من خلال تقديم التنازلات له وكسب ودّه من خلال منحه بوادر حسن النية. صحيح أنه كان هناك مَن حذّروا من أن هذه السياسة التصالحية سوف تزيد هتلر شهية لا غير، إلا أن هذه التحذيرات قد وُضعت جانباً بدافع الطابع الإنساني الفطري الرامي إلى كسب الهدوء بأي ثمن. ولم يتأخر موعد دفع هذا الثمن وكان باهظاً لدرجة استعصاء تحمّله، متمثلاً بذبح 6 ملايين من أبناء شعبنا إبان المحرقة النازية (الهولوكوست) ومقتل عشرات الملايين من الأشخاص الآخرين في هذا الجحيم المرعب.

وبالتالي كانت النتيجة التي تم التوصل إليها في نهاية الحرب قاطعة: لا مجال لإبداء الضعف أمام أنظمة الطغيان التي تمدّ أذرعها القاتلة إلى كل حدب وصوب. ولن يضمن مستقبل الإنسانية إلا الصمود أمام هذه الأنظمة مع حماية قيم الحرية والتسامح.

هنالك الكثيرون في العالم ممن يصرّحون بأن العِبر التي كان قد تم استخلاصها آنذاك ما زالت سارية المفعول اليوم أيضاً. ويعلن هؤلاء: "لن يتكرر الأمر أبداً"، ويطلقون التصريحات القائلة: "لن نتغاضى عن المطامع التوسعية للطغيان العنيف"، ثم يتعهدون بالقول: "سوف نقاوم الشرور في منطلقها". غير أن هذه الكلمات عديمة المغزى ما لم تحمل في طياتها أي تعبير عملي. ويجوز بالتالي السؤال: هل استفاد العالم حقيقة من المأساة التي يستحيل تصوّرها- بكلا بُعدَيْها العالمي واليهودي- والتي حلّت في القرن الماضي؟ ليتني استطعتُ الوقوف هنا والقول جازماً إن الإجابة على هذا السؤال إيجابية حقاً.

وتتزايد في هذه الأيام التهديدات للحضارة الإنسانية. وتجتاح قوى التشدد الإسلامي الشرق الأوسط وتدمّر آثار الماضي وتسيئ معاملة العاجزين وترتكب المجازر بحق الأبرياء ساعيةً لإنشاء نظام الخلافة- وحتى أكثر من الخلافة الواحدة- على غرار ما كان في القرون الوسطى. في الوقت ذاته يقمع النظام المتشدد في إيران شعبه ويركض إلى الأمام ويُغرق الشرق الأوسط برمته- في اليمن وسوريا ولبنان والعراق وغزة وحدود الجولان- بالدماء والعذاب.

وكما كان النازيون يتطلعون إلى سحق الحضارة وتسييد "الجنس الأرقى" [الألماني الآري حسب معتقداتهم] على الأرض بالتزامن مع إبادة الشعب اليهودي، فإن إيران تسعى للسيطرة على المنطقة ثم الامتداد منها بالتزامن مع النية المصرَّح بها لإبادة دولة اليهود. وتسير إيران قدماً على مساريْن: الأول- تطوير قدرة الحصول على السلاح النووي وإنشاء ترسانة من الصواريخ الباليستية؛ الثاني- تصدير الثورة الخمينية إلى بلدان كثيرة من خلال الاستخدام المكثف للإرهاب واحتلال مناطق واسعة من الشرق الأوسط. وتجري كل هذه الإجراءات علناً وفي وضح النهار وأمام عدسات الكاميرات، لكن العمى [بمعنى تجاهل حقيقة النوايا الإيرانية] ما زال كبيراً.

وكان النبي إشعيا قد قال: "ها هوَ الظَّلامُ يُغَطِّي الأرضَ، والسَّوادُ الكثيفُ يشمَلُ الأُمَمَ" [سفر إشعيا، الفصل 60، الآية 2]. ونشهد الآن تلاشياً للعزيمة والعِبَر التي كان قد تم اكتسابها بدماء كثيرة قبل 70 عاماً، ليحلّ محلها الظلام والغموض القائم على إنكار الواقع. إن الاتفاق السيئ قيد الصياغة [بين الدول الكبرى] وإيران يدل على أن العِبرة التأريخية اللازمة لم يتم تذويتها. إذ يقدِّم الغرب التنازلات مقابل الإجراءات الإيرانية العدوانية. وتتراجع الدول الكبرى بدلاً من مطالبة إيران بتفكيك جزء ملحوظ من قدراتها النووية واشتراط رفع القيود المفروضة عليها بوقف عدوانها، خاصة وأن إيران تقول جهارةً إنها مقبلة إلى القضاء على 6 ملايين من اليهود هنا [في إسرائيل]، ناهيك عن نيتها القضاء على كثير من الدول وأنظمة الحكم. إن الدول الكبرى تبقي لدى إيران قدراتها النووية لا بل تسمح لها بتوسيعها لاحقاً بغض النظر عن الممارسات الإيرانية في الشرق الأوسط وأرجاء العالم.

وفي الوقت الذي يغرق فيه العالم المتحضّر بحالة من الغفوة المستندة إلى فراش من الأوهام، فإن حكام إيران يشجعون الممارسات السرية والإرهابية ويبثون الدمار والموت. وتصمّ الدول الكبرى آذانها إزاء هتافات الجماهير في إيران: "الموت لأميركا، الموت لإسرائيل"، كما أنها تغمض عيونها إزاء عمليات إعدام معارضي النظام الإيراني وأبناء الأقليات في إيران، فضلاً عن التزامها جانب الصمت إزاء قيام إيران بتكثيف إجراءاتها لتسليح التنظيمات الإرهابية (أو تكتفي بالتصريحات البروتوكولية الهشّة).

لقد استقصيتُ الأمر وثبت لديّ وجود "بشرى" استضافة طهران عما قريب- وبالتزامن مع حلول ذكرى محرقة شعبنا- مسابقة دولية ذات جوائز تضم ممثلين عن 56 دولة للرسومات الكاريكاتيرية التي تتناول إنكار محرقة الشعب اليهودي. هل سيعلو صوت الاحتجاج على ذلك؟ كلا، بل سنسمع في أفضل الحالات إدانة خافتة متكلفة.

أيها الأفاضل، مواطنو دولة إسرائيل وممثلو الدول المساندة لها، إن هذا الوهم مآله التحطّم. وكانت الحكومات الديمقراطية قد ارتكبت خطأ مصيرياً قبل الحرب العالمية الثانية [من حيث تعاملها مع ألمانيا النازية]، وإننا على قناعة- ويجب القول إن الكثير من جيراننا يشاركوننا الرأي- بأنها ترتكب خطأ فادحاً الآن أيضاً. لعلّ الشراكة القائمة مع جزء غير قليل من جيراننا، الذين يشاركوننا في رصد التهديدات، ستكون أساساً للشراكة الرامية إلى خلق مستقبل أفضل وأكثر أمناً وطمأنينة في منطقتنا. أما نحن فلن نرتدع حتى ذلك الحين بل سنظلّ مصرِّين على الحقيقة ونعمل كل ما في وسعنا لفتح العيون المغمضة.

لا أريد إيهام أحد، حيث تنتظرنا فترات المِحَن. وقد أصبحنا في خضمّ كفاح شرس. سنواجه بكامل طاقاتنا مظاهر الإعياء والوهن وإنكار الواقع. وهنالك كثيرون ممن يتضامنون معنا إلى جانب أولئك الذين يرفضون فهم موقفنا. لكن الخوف لن يمسّ قلوبنا حتى وإنْ اضطُرِرْنا للوقوف وحيدين. وأياً كانت التصورات والأحوال، فإننا سنحتفظ بحقنا ونصون قدرتنا ونحفظ عزيمتنا على الدفاع عن أنفسنا.
لقد كنّا قبل 70 عاماً أمة من لاجئي الحرب العاجزين عن ممارسة القوة أو إسماع أصواتهم. أما الآن فإننا نُسمع كلامنا ونصمم على تأمين وجودنا ومستقبلنا. وينحصر دورنا في مكافحة الطامعين في القضاء علينا دون أن نحني رؤوسنا لهم ودون استسهال الواقع. لن نسمح بأن تكون دولة إسرائيل حدثاً عابراً في تأريخ شعبنا.

أيها الأكارم، لقد التقيتُ اليوم في مكتبي أحد الناجين من المحرقة وهو السيد أبراهام نيدرهوبير البالغ من العمر 85 عاماً. وكان أبراهام قد ولِد في رومانيا ثم شهد عندما كان صبياً يبلغ من العمر 12 عاماً عملية قتل تقشعر لها الأبدان أقدم عليها جندي روماني بحق أقربائه. واقتيد أبراهام نفسه على متن قطار شحن لنقل الأبقار إلى أوكرانيا حيث صمد ويلات المحرقة. ولم يتسنَّ له إلا عام 1969، بسبب تمادي السلطات الرومانية الشيوعية في رفضها السماح بمغادرته بلادها، الوصول إلى البلاد. أما في إسرائيل فقد عمل أبراهام مهندساً ومفتشاً في مشاريع إعمار الدولة. وكانت مشاعر التأثر تجتاحه عندما كان يروي لي قصته- لدرجة جعلته مضطراً للتوقف عن حديثه في بعض الأحيان- لكنه ألحّ عليّ في ختام لقائنا بهذا الطلب حيث قال: "أيها رئيس الوزراء، إن مهمتك تتلخص بمنع وقوع محرقة أخرى"، وعندها أجبتُ عليه بالقول: "إنني أنظر إلى مسؤوليتي ووظيفتي هذه النظرة تماماً".

كان الناجون [من المحرقة] قد خرجوا قبل سبعة عقود من المعسكرات والغابات ومسيرات الموت تكسوهم الملابس الرثة وتملأ الجروح أجسامهم. وعندما كان نزلاء المعسكرات [النازية] يقفون في طوابير تحريرهم، سألهم جنود قوات التحالف عن المكان الذي يودّون العودة إليه. وقد عاد البولنديون حينها إلى بولندا، وعاد الروس إلى روسيا، وعاد المجريون إلى المجر، وعاد الأوكرانيون إلى أوكرانيا؛ غير أن جموع اليهود لم يكن لهم مكان يستطيعون العودة إليهم. إنهم كانوا يقفون عاجزين إذ لم تكن لهم دولة خاصة بهم.

أما اليوم فقد أصبحت لدينا دولة خاصة بنا، دولة مزدهرة متقدمة، دولة تنهل من تراث الأجداد وتقف في صدارة العلوم، دولة تفيض نوراً عظيماً، دولة تستوفي حق مصيرها بذاتها. إننا أصبحنا- بعد مضي 70 عاماً على سيرنا في أودية الموت- نقدّس كل ما هو حي ونابض ومبدع ومزدهر.
إن إسرائيل صارت تحقق الاختراقات في كل جبهات الرقي الإنساني من علوم وطب وتقنيات وزراعة وتربية وتعليم وثقافة، حيث نفعل ذلك ليس من أجل شعبنا بل من أجل كافة سكان المعمورة. هذه هي ثوابت وجودنا: الالتزام بالأمن وبمستقبل إسرائيل، والتمسك بتراثنا، ووحدة الشعب المفعم بطاقة الحياة الهائلة. إن شعب إسرائيل الذي تجاوز أسفل الجحيم سيتمكن من أي تحدٍّ.

" إستَفيقي، يا أمّتي واَلبَسي عِزَّتَكِ" [بناءً على ما ورد في سفر إشعيا، الفصل 52، الآية 1 بتصرف]. لقد انتفض شعب الخلود وعاد إلى وطنه ورفع قامته وأنشأ دولة مجيدة وجيشاً عظيماً، جيش الدفاع الإسرائيلي حيث يخدم فيه أبناؤنا البواسل الأبطال.
لنذكر الموتى الهالكين ونؤمن الأحياء.