كلمة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في المراسم الرسمية لإحياء ذكرى دافيد وبولا بن غوريون

لقد شاهدت للتو الفلم الجديد والأخاذ المسمى بلقب "بن غوريون، الخاتمة" وإذا لم تسنح لكم فرصة مشاهدته بعدُ فأنصحكم بشدة بمشاهدته. إنه ترك انطباعاً كبيراً عليّ بالنسبة لشخصية القائد المنعكسة من خلاله فهو يتيح لنا إمكانية الاستماع إلى بن غوريون وهو يحكي ومشاهدته مما يشكل تجربة تختلف جوهرياً عن مجرد الاطلاع على رسالاته، حيث يتم طرح عليه الأسئلة فيجيب عنها.

تلك المقابلة الطويلة والأصيلة تم تصويرها عام 1968 حينما بلغ بن غوريون من عمره 82 عاماً ودعوني أقول لكم صراحةً، وربما لن يفاجئكم ذلك، إنني لم أوافق على كل شيء. ويشمل هذا على سبيل المثال، ما يتعلق بموقفه من يهودا وسامرا فأعتقد من ضمن أشياء أخرى بأنه لو كنا نسلم تلك المنطقة الحيوية الذي تعد أيضاً أرض أجدادنا لأيادٍ عربية لكانت تتحول سريعاً إلى قاعدة لإطلاق الهجمات علينا – وحالياً من قبل قوى الإسلام المتطرف.

وكان هناك شيء آخر لم أوافق عليه، رغم أنني وافقت على معظم الأشياء، وهو مقولته: "إنني ضد المدن الكبيرة فهي سيئة للبشرية"، والتي تتبيّن من خلالها بطبيعة الحال تلك الفجوة بين التصورات الاقتصادية المختلفة لكل منا، حيث أنني أؤيد بالتأكيد فكرة المدن الكبيرة الواقعة بجوار المدن التابعة والبلدات الأصغر حجماً، لكون الأولى تشكل عادةً بؤراً لمباشرة الأعمال الحرة وتضخ الدم في أعراق الاقتصاد لأن الكلام يدور عن اقتصاد حر فتحرك عجلات الابتكار.

وهذا ما يدفعنا إلى جعل مدينة بئر السبع مدينة كبرى يسكن فيها نصف مليون نسمة وعدد سكانها الحالي يناهز الربع مليون فعلاً. ففي غضون 12 عاماً سيبلغ تعداد سكانها نصف مليون وستتميز بتوفر الجامعات والمصانع والسايبر فيها ومحيط مزدهر حولها يضم مدن تابعة مثل ديمونا ويروخام.

إن تلك الاختلافات مهمة ولكنها ليست الأساس برأيي فأبرز الأشياء الظاهرة في تلك المقابلة لم يكن التزام بن غوريون بهذه الدولة فحسب وإنما إدراكه بأن استمرار بقائها ليس بالأمر البديهي أو التلقائي بل منوط ببذل مساعٍ متواصلة بغية تحصين قوتها وضمان مستقبلها.

وقد سئل بن غوريون في مقابلة أجراها معه كلينتون بايلي عن الوعد الإلهي وعن تلقائية البقاء فتنصل من الإجابة ثم قال: إن الأمر يتوقف علينا وبأيدينا وهذا صحيح. فخمسين عاماً بعد تلك المقابلة وبعد مرور جيلين تكون دولة إسرائيل ثابتة ومزدهرة. إننا نجعل منها قوة عظمى إقليمية وقوة عالمية صاعدة ونقوم بذلك من خلال التنمية المنتظمة للغاية لقوتنا الاقتصادية والعسكرية، مما يؤدي بدوره إلى ازدهار سياسي غير مسبوق وسأتطرق إلى ذلك لاحقاً بالمزيد من الكلمات.

وقد تناول بن غوريون كوننا الشعب المختار وقدوة بالنسبة لباقي شعوب المعمورة وكان على الحق فالآلاف من الجرحى السوريين سيشهدون بحقيقة ذلك وعلى غرارهم سيشهدون بذلك مواطنو المكسيك حيث كانت وفد الإنقاذ الذي أرسلناه لهناك أول من وصلها وآخر من غادرها؛ وسيشهد بذلك الأناس في القلبين والنيبال وهايتي وتركيا والعديد من الاماكن الأخرى. كما سيشهد بذلك مواطنو إيران ممن كنا على استعداد لتقديم المساعدات الطبية لهم مؤخراً.

إن إسرائيل وبالرغم من كل الاتهامات التي توجّه بحقها دولة أخلاقية وحرة وديمقراطية. لدينا مجتمع لا يخشى الجدل والنقاش ومفعم بالحيوية – فهل من طريق آخر؟ إننا دولة لا تكتفي بما هو موجود وإنما تتقدم باستمرار إلى الأمام. إن شجرة حياتنا تترسخ جذورها في تراب الوطن القديم ولكنها تبعث بفروعها إلى الأعلى دائماً.

وقد تكوّن هنا ذلك المزيج الفريد من نوعه والذي يجمع التراث مع الابتكار. فكيف يُكتب في الفصل من توراتنا الخاص بهذا الأسبوع؟ "سلم منصوب على الأرض وطرفه يبلغ السماء" إلا أن تلك الشجرة كادت تقطع قبل 75 عاماً وكاد ينقطع خيط حياتنا. فبعد أن وضعت المحرقة النازية أوزارها كانت هناك تلك الحاجة الملحة إلى ضمان استمرار بقاء شعبنا في دولة مستقلة خاصة بنا – وفي تلك المرحلة تجلى بن غوريون بعظمته.

فكان يقف قبل 70 عاماً على مفترق طرق فاصل حينما كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة على وشك الانعقاد لاتخاذ قرارها في مسألة الدولة اليهودية، بينما شدد تلاشي حكم الانتداب البريطاني الفراغ السياسي الموجود آنذاك في البلاد، أي ذلك الفراغ السياسي والأمني الذي جعل الوطن العربي يهدد الشعب اليهودي بالخراب والإبادة.

فعلى وقع كماشة الضغوطات الهائلة هذه قرر بن غوريون: في الأمم المتحدة- "الحسم الأخلاقي" أما البلاد ففيها "الأفعال تحسم". ومرة أخرى إن ذلك ليس مضموناً ويجوز أن يكون عادلاً إلا أنه غير مضمون ومنوط بنا. إنه شعر بأن كل شيء بعود إلى حقنا الثابت بصفتنا شعباً يعود إلى أصوله وكلما اعترضوا عليه وحاربوه فوقف على الباب. وكان يتحلى بالعزيمة القوية ولكن يوجد أيضاً شيء مثير للغاية في إدراكه للثمن الذي سندفعه في سبيل ذلك.

وفي التاسع والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني وبعد صدور القرار القاضي بإقامة دولة يهودية احتفلت الجماهير وابتهجت في الشوارع وغرمت الفرحة العظيمة كافة جاليات هذا الشعب، بينما بقي بن غوريون الذي أقام حينئذ في فندق في شمال البحر الميت في غرفته فبرر لبنته رينانا عدم احتفاله بشعوره أننا واقفون على عتبة حرب حامية الوطيس. وقال لها: "من يدري إن لم يسقط هؤلاء الذين يرقصون الآن هنا". فسقطوا.

وبعد ذلك بنصف عام تم إقامة دولة إسرائيل فسيرجع الفضل إليه إلى الأبد ويبقى مكتوباً في سيرة تاريخ شعبنا بسبب قراره الإعلان عن استقلالنا رغم المعارضة الداخلية والخارجية، وكذلك عمله النشط على تعزيز قوة الدولة الجنينية. إننا ما زلنا نسترشد بالبوصلة التي أمسكها بن غوريون بيده وذلك مع تكييفها لواقعنا الراهن.

فعلى الصعيد السياسي إننا نراعي بلا هوادة علاقاتنا مع شعوب العالم. وقد رغب بن غوريون بالقفز فوق العدوانية العربية وتشكيل حلقة من التحالفات مع إيران وإثيوبيا وتركيا وكان على حق في ذلك. أما اليوم فاجتزنا تلك المرحلة بكثير فأولاُ طرأت تغيرات على الأوضاع في المنطقة وكما تعلمون لقد تجاوزنا تلك الحلقة بشكل ملموس ووصلنا إلى أماكن أبعد منها فنشهد ازدهاراً غير مسبوق ليس مع صديقتنا الكبرى الولايات المتحدة فقط ولكن أيضاً مع روسيا ودول آسيا وعلى رأسها الصين والهند واليابان ودول أمريكا اللاتينية وأستراليا ودول إفريقيا التي سأتجه إليها في الأسبوع القادم للمرة الثالثة خلال سنة ونصف.

وبالتزامن مع ذلك فإن العلاقات مع الدول العربية تتوطد أيضاً حيث أنها تقف إلى جانبنا ضمن جبهة واحدة في مواجهة خطر الإسلام المتطرف مما يشكل تغيراً ملموساً مقارنة بحقبة بن غوريون فأود الرجوع بكم إلى ما دوّنه عام 1947 "إن مشروعنا في هذه البلاد والمجتمع الذي نقوم ببنائه واقتصادنا وعلومنا وثقافتنا وإنسانيتنا ونظامنا الاقتصادي والاجتماعي – كل هذه لا بد لها من أن تشكل منارة لكل البلدان المجاورة لكي تهتدي بها ويهتدي بنا سكان البلدان المجاورة ليتعاونوا معنا، فإن لم يفعلوا ذلك سيضطرون للتعاون مع المستعبِدين العدوانيين والأجانب".

إن بن غوريون قد تنبأ وربما لم يعلم الذي تنبأ به أو بالعكس. فتعاوننا المثمر مع الدول العربية عبارة عن تعاون خفي بعيد عن الأعين في معظم الأحيان إلا إنني أعتقد بأن العلاقات معها ستنضج أكثر فأكثر وأعتقد بأنها ستأتي بثمارها بتوسيع دائرة السلام. وذلك سيحدث في نهاية المطاف لأنه يجري طول الوقت في الخفاء.

وكذلك تستند عقيدتنا الأمنية هي الأخرى إلى أسس القوة التي سكبها بن غوريون. فمنذ الفترة التي سبقت إقامة الدولة وحتى بعدها أجرى بن غوريون التحضيرات لما كان سيأتي مستقبلاً – من خلال تخزين الأسلحة وتنظيم القوات الواقية وتكوين مضامين وإطار لجيش الدفاع الإسرائيلي. إنه تناول أدق التفاصيل الاستراتيجية سواء دفاعاً أو هجوماً. وقبل كل شيء إنه كان يقول: يجب صد العدواني ثم يجب تحويل المعارك القتالية لتدور على أرضه وتحن نتابع ذلك الخط من تنمية قوتنا العسكرية والاستخباراتية.

إن بن غوريون قد اعتنق جوهر فكرة الجدار الحديدي لجابوتنسكي. أما اليوم فتلك الفكرة تنطبق أكثر من أي وقت مضى. فكل من يلتمس إلحاق أذى بنا – إننا نرد عليها. ومن يسعى إلى تعريضنا لخطر الهلاك فهو يضع مصيره على كفة عفريت. لقد أوضحنا في الكثير من المناسبات أننا لن نتسامح مع وجود الأسلحة النووية لدى إيران وكذلك لن نسمح بتموضع القوات الإيرانية بالقرب من حدودنا وفي منطقة سوريا عموماً أو أي مكان آخر. بفضل عمل الأجيال قد صنعنا شيئاً من العدم ولا يمكن تحويل الشيء إلى عدم.

كانت بحوزة بن غوريون رؤية سياسية وطنية أمنية واضحة وجزء منها تمثل في تعمير النقب. وشكل نموذجاً شخصياً حينما قدم لهنا لسديه بوكير ولكن من الحري بنا الاعتراف بحقيقة أن استيطان النقب تم تدريجياً ورويداً رويداً. فلم تأتِ إليه تلك الحشود من البشر كما حلم وتطلع إليه بن غوريون، ومع ذلك فإننا نجعل حالياً من النقب مركزاً يجذب إليه الآلاف الغفيرة. إن الرؤية التي ندعمها هي الرؤية نفسها التي تجمع بين أمرين – أي الاستثمار في البنى التحتية الوطنية والاستثمارات من القطاع الخاص. ويحقق كل ذلك نجاحاً عندما يدخل القطاع الخاص في الصورة.

لقد دشنا في وقت سابق من هذا اليوم في مراسم احتفالية الطريق رقم 31 المؤدي من عاراد إلى مفترق شوكيت مما يشكل بعداً آخر في ثورة المواصلات التي توصل النقب توصيلاً داخلياً وتوصله بوسط البلاد. إننا نواصل صبغ النقب بألوان الزيتون الخاصة بجنود جيش الدفاع – فسيتم استيعاب المزيد من الوحدات وقواعد التدريب في الجنوب بتكنولوجيا وتقدم. إن النقب يستفيق من غيبوبة طويلة وتترامى أذرعه إلى كل ناحية بنشاط البناء والإبداع. لقد سمعت للتو رئيس مجلس حورة الذي صاغ هذا الأمر بصورة استثنائية حينما صرح: إن هذه الثورة تغير حياتنا، وذلك لا يتمثل في الطرق فحسب وإنما في الاستثمارات بالمليارات التي ننفقها على المواصلات والتربية والصناعة – بغية تغيير وجه الواقع. وليس لصالح المجتمع البدوي فحسب وإنما لصالح الوسط العربي بأسره، لأنني أريد مشاركة الجميع في قصة النجاح المسماة بدولة إسرائيل. إن هذا النجاح ملك لمواطني إسرائيل سواء من اليهود وغير اليهود. وهو ليس ملكاً للذين انتهكوا أو قلبوا القانون وتسللوا إلى أراضينا.

وقد صد الجدار الذي أقمناه في مكان لا يبعد هن هناك كثيراً على الحدود مع مصر تماماً موجات المتسللين غير القانونيين إلى بلادنا وإلى النقب، وإننا مصممون على إخراج أولئك الذين دخلوا إلى هنا بصورة غير قانونية وإخراجهم بصورة قانونية. إننا أرفض بشكل قاطع الهجمات النارية التي أتعرض لها أنا وشركائي في الحكومة حيث يتم عرضنا وكأننا قتلة يرتدون البدلات. وقد صرحت مؤخراً بأنه يجوز لنا التوافق أو عدم التوافق ولكن يجب القيام بكل ذلك بصورة محترمة وتسري هذه القاعدة على الجميع.

أعزائي، بن غوريون رحل منا قبل أربعين وأربع عاماً إلا أن روحه ما زالت حاضرة هنا وأفعاله المباركة ستترك بصمتها على أجيال متعاقبة حيث أننا سنبقي في بالنا وصيته مفادها أن قيام الدولة لا يضمن بمرة واحدة وإنما بالعمل المتواصل والمستمر الذي تؤديه الأجيال كلها وكلنا نخضع لامتحان يوماً بعد اليوم وجميع مواطني إسرائيل وجيل بعد جيل. إن دولة إسرائيل أقوى وأكثر ازدهاراً من أي وقت مضى والنقب يزدهر اكثر من أي وقت مضى. وسنواصل المضي على هذه الطريق ألا هي طريق بن غوريون لضمان خلود إسرائيل جيل بعد جيل. وطيّب الله ذكرى دافيد وبولا بن غوريون الخالد في قلب الأمة إلى الأبد.